كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



القول في تأويل قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [98].
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يتقدمهم إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} أي: يوردهم. وإيثار لفظ الماضي للدلالة على تحققه والقطع به. وشبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وأتباعه بالواردة، والنار بالماء الذي يردونه.
ثم قيل: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي: بئس الذي يردونه النار، لأن الورد- وهو النصيب من الماء- إنما يراد لتسكين الظمأ، وتبريد الكبد، والنار على الضد من ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [99].
{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ} أي: الدنيا: {لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يلعنون في الدنيا والآخرة، فهي تابعة لهم أين كانوا، فـ: (يوم) معطوف على محل (في) هذه؛ لابتداء كلام.
{بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُود} أي: بئس العطاء المعطى، وهي اللعنة في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [100].
{ذَلِكَ} إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم: {مِنْ أَنبَاء الْقُرَى} أي: المهلكة: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} أي: بالوحي: {مِنْهَا قَائِمٌ} أي: باق ينظر إليها، قد باد أهلها: {وَحَصِيدٌ} أي: ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [101].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بإهلاكنا إياهم: {وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أي: بتعريضها لما أوجبه من الشرك وعبادة الأوثان والظلم: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي: إهلاك وتخسير.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [102].
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} فيه إشعار بظلمهم وإعلام بسنته تعالى في أخذ الظالمين التي لا تتبدل، وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أي: غيره، من سوء العاقبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [103].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: فيما قص في هذه السورة، أو في أخذ الظالمين: {لآيَةً} أي: لعبرة: {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} فيعتبر بها عن موجباته: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي: يشهده الأولون والآخرون، وأهل السماء والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [104].
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} أي: ذلك اليوم: {إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي: لمدة محدودة.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [105].
{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي: بإذن الله تعالى، كقوله تعالى: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: من الآية 38]، {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [106].
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير: إخراج النفس مع صوت ممدود، والشهيق: رده. كني بهما عن الغم والكرب، لأنه يعلو معه النفس غالبًا. أو شبه صراخهم بأصوات الحمير.
القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [107- 108].
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غير مقطوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية.
وفي التوقيت بـ: (السماوات والأرض) وجهان:
أحدهما: أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع، كقول العرب: (ما أقام ثبير)، و(ما لاح كوكب) و(ما طما البحر) ونحوها، لا تعليق قرارهم في الدارين بدوام هذه السماوات والأرض، فإن النصوص دالة على تأبيد قرارهم، وانقطاع دوامهما.
وثانيهما: أن يراد سماوات الآخرة وأرضها، إذ لابد لأهلها من مظل ومقل، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: من الآية 48]، وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: من الآية 74].
فإن قلت: ما معنى الاستثناء بالمشيئة، وقد ثبت خلود أهل الدارين فيهما من غير استثناء؟.
فالجواب ما قدمناه في قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعراف: من الآية 188]، يعني أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن، للدلالة على الثبوت والاستمرار.
والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل.
وقد أشار لهذا ابن كثير بقوله: يعني أن دوامهم ليس أمرًا واجبًا بذاته، بل موكول إلى مشيئته تعالى.
وابن عطية بقوله: هذا على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام، كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: من الآية 27] فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.
وللمفسرين هنا وجوه كثيرة، وما ذكرناه أحقها وأبدعها.
ولما قص تعالى قصص عَبْدة الأوثان وذكر ما أحله بهم من نقمة، وما أعد لهم من عذابه قال:
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [109]
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي: في شك من عبادتهم، في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم. وفيه تسلية له صلوات الله عليه، وعدة بالانتقام، ووعيد لهم: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} أي: فهم سواء في الإشراك، وقد بلغك ما نزل بآبائهم، فسيحل بهم مثله. وهو استئناف معلل للنهي عن المرية: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من العذاب، كما وفي لآبائهم: {غَيْرَ مَنقُوصٍ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [110]
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب} أي: التوراة: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي: آمن به قوم، وكفر به آخرون، كما اختلف هؤلاء في القرآن: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يعني ما أشير إليه في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: من الآية 33]، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: باستئصالهم: {وَإِنَّهُمْ} أي: هؤلاء، وهم كفار مكة: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي: القرآن: {مُرِيبٍ} أي: موقع للناس في الريبة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [111].
{وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: فلا يخفى عليه شيء منه، وسيجزيهم عليه. والتنوين في (كُلًا) عوض عن المضاف، أي: وإن كل المختلفين فيه.
تنبيه:
في هذه الآية قراءات: قرئ (إنه) و(لما) مخففتين ومشددتين، وبتخفيف (إن) وتشديد (لما) وبعكسها، وهذه الأربع قراءات كلها متواترة.
فأما الأولى: ففيها إعمال (إن) المخففة، وهي لغة ثابتة عن العرب، واللام في (لما) لأمر الابتداء داخلة في خبر (إن). و(ما) إما موصولة بمعنى (اللذين) واقعة على من يعقل، واللام في (ليوفينهم) جواب قسم مضمر، أي: وإن كلا الذين، والله ليوفينهم. وإما نكرة موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفة (ما) أي: وإن كلا لخلق، أو لفريق، والله ليوفينهم. وقيل: اللام الأولى موطئة للقسم، ولما اجتمع اللامان واتفقا في اللفظ فصل بينهما بـ (ما) فهي زائدة لإصلاح اللفظ. وقيل: اللام المذكورة هي الفارقة بين المخففة والنافية. وقيل: إنها جواب القسم كررت تأكيدًا.
وأما الثانية: وهي تشديدهما، فـ: (إن) على حالها وما بعدها منصوب على أنه اسمها، و(لما) بمعنى (إلا) أو جازمة بمعنى (لم) ومجزومها محذوف، أي: لما يمهلوا، أو لما يوفوا أعمالهم إلى الآن، وسيوفونها.
وأما الثالثة: وهي تخفيف (إن) وتشديد (لم) فـ (إن) مخففة عاملة كما تقدم، و(لما) بمعنى (إلا) أو جازمة أيضًا، أو (إن) نافية بمنزلة (ما) و(ما) بمعنى (إلا) و(كلا) منصوب بمضمر، أي: وما أرى كلا إلا.
وأما الرابعة: وهي تشديد (إن) وتخفيف (لما) فواضحة فـ (إن) هي المشددة عملت عملها.
والكلام في (اللام) و(ما) مثل ما تقدم أولًا من الوجوه الأربعة في (اللام) والثلاثة في (ما).
وثمة قراءات أخر. وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي: في القرآن، و(الكاف) للتشبيه، أو بمعنى (على): {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي: من الشرك، وهم المؤمنون: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي: تجاوزوا حدود الله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فيجازيكم به. قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله والمؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر، وينهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة، ولو كان على مشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [113].
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: أنفسهم بالشرك والمعاصي، أي: لا تسكنوا إليهم. ولا تطمئنوا إليهم؛ لما يفضي الركون من الرضا بشركهم وتقويتهم، وتوهين جانب الحق: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء} أي: أنصار يمنعون عذابه عنكم بركونكم إليهم: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي: لا تمنعون مما يراد بكم. والقصد تبعيد المؤمنين عن موادة المشركين المحادّين لله ولرسوله، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة في الصد عن سبيل الله؛ لأن ذلك ينافي الإيمان.
قيل: الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟.
تنبيه:
قال بعض المفسرين اليمانيين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة، لأنه تعالى توعد بالنار. ولكن ما هو الركون الذي أراده تعالى؟ قلنا: في ذلك وجوه؟
فروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى: لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.
وقيل: ترضوا بأعمالهم. عن أبي العالية.
وقيل: تلحقوا بالمشركين.- عن قتادة-.
وقيل: تداهنوا الظلمة. عن السدي وابن زيد.
وقيل: الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم. فأما إذا دخل عليهم لدفع شرهم فيجوز، لأنه تعالى أمر بالرفق في مخالطة الكفار، والظلمة أولى.
قال الزمخشري: النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين.
وحكي أن الموفق صلى خلف الإمام، فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟ انتهى.
قال اليماني: قد وسع العلماء في ذلك وشددوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا. انتهى.
وأقول: كل هذا مبني على عموم الآية، وأما إن كانت في مشركي مكة اعتمادًا على سباق الآية وسياقها؛ فالمراد منها ما ذكرناه أولًا- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [114].
{وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} أي: غدوة وعشية: {وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} أي: وساعات منه، وهي ساعاته القريبة من آخر النهار، من (أزلفه) إذا قربه، وازدلف إليه. وصلا الغدوة: الفجر، وصلاة العشية: الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء- كذا في الكشاف-. والآية كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر} [الإسراء: من الآية 78] في جمعهما للصلوات الخمس جمعًا بالغًا غاية اللطف في بلاغة الإيجاز، وانتصاب (طرفي النهار) على الظرف لإضافته إليه. و(زلفًا) قرأها العامة بضم ففتح، جمع زلفة، كظلمة وظلم. وقرئ بضمها، إما على أنه جمع زلفة أيضًا، ولكن ضمت عينه إتباعًا لفائه؛ أو على أنه اسم مفرد كعنق. أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف.
وقرئ بإسكان اللام، إما بالتخفيف، فيكون فيها ما تقدم، أو على أن السكون على أصله، فهو كبسرة وبسر، من غير إتباع.
وقرئ (زلفى) كحبلى، بمعنى قريبة، أو على إبدال الألف من التنوين؛ إجراء للوصل مجرى الوقف. ونصبه إما على الظرفية بعطفه على (طرفي النهار) لأن المراد به الساعات، أو على عطفه على (الصلاة) فهو مفعول به.
والزلفة عند ثعلب: أول ساعات الليل.
وقال الأخفش: مطلق ساعات الليل، وأصل معناه القرب. يقال ازدلف أي: اقترب و(من الليل) صفة زلفًا- كذا في العناية-.
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ} أي: التي من جملتها، بل عمدتها، ما أمرت به من الصلوات: {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أي: التي قلما يخلو منها البشر، أي: يكفرنها: {ذَلِكَ} أي: إقامة الصلوات في الأوقات المذكورة: {ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: ذكرى له تعالى، وإحضار للقلب معه، وتصفية من كدورات اللهو والنسيان لعظمته.
وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت! فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك. قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا فدعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إلخ.
فقال رجل من القوم: يا رسول الله، هذا له خاصة؟ قال: «بل للناس كافة». أخرجه البخاري وغيره.
وفي رواية عن أبي أمامة قال له صلى الله عليه وسلم: «أتممت الوضوء وصليت معنا؟» قال: نعم، قال: «فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، فلا تعد». وقرأ الآية.
وفي رواية فنزلت الآية، والمراد بالنزول شمولها، بنزولها المتقدم، لما وقع، لأنها كانت سببًا في النزول- كما بيناه غير مرة-.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا. قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا». ورواه البخاري أيضًا عن جابر، ورُوي نحوه عن عثمان وسلمان.
وللإمام أحمد عن معاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
وله عن أبي ذر مرفوعًا: «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها» قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: «هي أفضل الحسنات» أي: فالحسنات مثل الصلاة والذكر والصدقة والاستغفار، ونحو ذلك من أعمال البر.اهـ.